الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إظهار الحق (نسخة منقحة)
.الباب الثالث: في إثبات النسخ: بل يطرأ على الأحكام التي تكون عملية محتملة للوجود والعدم غير مؤبدة وغير مؤقتة، وتسمى الأحكام المطلقة، ويشترط فيها أن لا يكون الوقت والمكلف والوجه متحدة، بل لا بد من الاختلاف في الكل أو البعض من هذه الثلاثة، وليس معنى النسخ المصطلح أن اللّه أمر أو نهى أولًا وما كان يعلم عاقبته ثم بدا له رأيٌ فنسخ الحكم الأول ليلزم الجهل، أو أمر أو نهى ثم نسخ مع الاتحاد في الأمور المسطورة ليلزم الشناعة عقلًا. وإن قلنا إنه كان عالمًا بالعاقبة فإن هذا النسخ لا يجوز عندنا، تعالى اللّه عن ذلك عُلُوًا كبيرًا، بل معناه أن اللّه كان يعلم أن هذا الحكم يكون باقيًا على المكلفين إلى الوقت الفلاني ثم يُنسخُ فلما جاء الوقت أرسل حكمًا آخر ظهر منه الزيادة والنقصان أو الرفع مطلقًا، ففي الحقيقة هذا بيان انتهاء الحكم الأول، لكن لما لم يكن الوقت مذكورًا في الحكم الأول فعند ورود الثاني يتخيل لقصور علمنا في الظاهر أنه تغير، ونظيره بلا تشبيه أن تأمر خادمك الذي تعلم حاله لخدمة من الخدمات ويكون في نيتك أنه يكون على هذه الخدمة إلى سنة مثلًا، وبعد السنة يكون على خدمة أخرى لكن ما أظهرت عزمك ونيتك عليه، فإذا مضت المدة وعينته على خدمة أخرى فهذا بحسب الظاهر عند الخادم، وكذا عند غيره الذي ما أخبرته عن نيتك تغييره وأما في الحقيقة وعندك فليس بتغيير، ولا استحالة في هذا المعنى لا بالنسبة إلى ذات اللّه ولا إلى صفاته، فكما أن في تبديل المواسم مثل الربيع والصيف والخريف والشتاء، وكذا في تبديل الليل والنهار وتبديل حالات الناس مثل الفقر والغنى والصحة والمرض وغيرها حِكَمًا، ومصالح للّه تعالى سواء ظهرت لنا أو لم تظهر فكذلك في نسخ الأحكام حكم ومصالح له نظرًا إلى حال المكلفين والزمان والمكان، ألا ترى أن الطبيب الحاذق يبدل الأدوية والأغذية بملاحظة حالات المريض وغيرها على حسب المصلحة التي يراها، ولا يحمل أحد فعله على العبث والسفاهة والجهل، فكيف يظن عاقل هذه الأمور في الحكيم المطلق العالم بالأشياء بالعلم القديم الأزلي الأبدي، وإذا علمت هذا فأقول ليست قصة من القصص المندرجة في العهد العتيق والجديد منسوخة عندنا. نعم بعضها كاذب مثل أن لوطًا عليه السلام زنى بابنتيه وحملتا بالزنا من الأب كما هو مصرح به في الباب التاسع عشر من سفر التكوين، أو أن يهود بن يعقوب عليه السلام زنى بثامار زوجة ابنه وحملت بالزنا منه وولدت توأمين فارض وزارح كما هو مصرح به في الباب الثامن والثلاثين من السفر المذكور، وداود وسليمان وعيسى عليهم السلام كلهم من أولاد فارض المذكور كما هو مصرح به في الباب الأول من إنجيل متى. أو أن داود عليه السلام زنى بامرأة أوريا، وحملت بالزنا منه فأهلك زوجها بالمكر وأخذها زوجة له كما هو مصرح به في الباب الحادي عشر من سفر صموئيل الثاني، أو أن سليمان عليه السلام ارتد في آخر عمره وكان يعبد الأصنام بعد الارتداد وبنى المعابد لها كما هو مصرح به في الباب الحادي عشر من سفر الملوك الأول، أو أن هارون عليه السلام بنى معبدًا للعجل وعبده، وأمر بني إسرائيل بعبادته كما هو مصرح به في الباب الثاني والثلاثين من سفر الخروج، فنقول: إن هذه القصص وأمثالها كاذبة باطلة عندنا ولا نقول إنها منسوخة والأمور القطعية العقلية والحسية والأحكام الواجبة والأحكام المؤبدة والأحكام الوقتية قبل أوقاتها والأحكام المطلقة التي يفرض فيها الوقت والمكلف والوجه متحدة لا تكون هذه الأشياء كلها منسوخة ليلزم الشناعة، وكذا لا تكون الأدعية منسوخة فلا يكون الزبور الذي هو أدعية منسوخًا بالمعنى المصطلح عندنا، ولا نقول قطعًا إنه ناسخ للتوراة ومنسوخ من الإنجيل كما افترى هذا الأمر على أهل الإسلام صاحبُ ميزان الحق وقال إن هذا مصرح به في القرآن والتفاسير، وإنما منعنا عن استعمال الزبور والكتب الأخرى من العهد العتيق والجديد لأنها مشكوكة يقينًا بسبب عدم أسانيدها المتصلة وثبوت وقوع التحريف اللفظي فيها بجميع أقسامه كما عرفت في الباب الثاني. ويجوز النسخ في غير المذكورات من الأحكام المطلقة الصالحة للنسخ فنعترف بأن بعض أحكام التوراة والإنجيل من الأحكام التي هي من جنس الصالحة للنسخ منسوخة في الشريعة المحمدية ولا نقول إن كل حكم من أحكامهما منسوخة، كيف وإن بعض أحكام التوراة لم تنسخ يقينًا مثل: حرمة اليمين الكاذبة والقتل والزنا واللواطة والسرقة وشهادة الزور والخيانة في مال الجار وعرضه ووجوب إكرام الأبوين، وحرمة نكاح الآباء والأبناء والأمهات والبنات والأعمام والعمات والأخوال والخالات، وجمع الأختين وغيرها من الأحكام الكثيرة وكذا بعض أحكام الإنجيل لم تنسخ يقينًا، مثلًا وقع في الباب الثاني عشر من إنجيل مرقس هكذا: 29 (فقال له عيسى وهو يحاوره: إن أول الأحكام قوله اسمع يا إسرائيل فإن الرب إلهنا رب واحد) 30 (وأن تحب الرب إلهك بقلبك كله وروحك كله وإدراكك كله وقواك كلها هذا هو الحكم الأول) 31 (والثاني مثله وهو أن تحب جارك كنفسك وليس حكم آخر أكبر من هذين) فهذان الحكمان باقيان في شريعتنا على أوكد وجه، وليسا بمنسوخين. .(أقسام النسخ): .(القسم الأول): .(القسم الثاني): وأمثلة القسمين في العهد العتيق والجديد غير محصورة لكن أكتفي ههنا ببعضها فأقول: .أمثلة القسم الأول هذه: .(الأول): الآية التاسعة من الباب الثامن عشر من سفر الأخبار هكذا: (لا تكشف عورة أختك من أبيك كانت أو من أمك التي ولدت في البيت أو خارجًا من البيت)، وفي تفسير دوالي ورجردمينت في ذيل شرح هذه الآية: (مثل هذا النكاح مساوٍ للزنا)، والآية السابعة عشرة من الباب العشرين من السفر المذكور هكذا: (أي رجل تزوج أخته ابنة أبيه أو أخته ابنة أمه ورأى عورتها ورأت عورته فهذا عار شديد فيقتلان أمام شعبهما، وذلك لأنه كشف عورة أخته فيكون إثمهما في رأسهما) والآية الثانية والعشرون من الباب السابع والعشرين من كتاب الاستثناء هكذا: (يكون ملعونًا من يضاجع أخته من أبيه أو أمه) فلو لم يكن هذا النكاح جائزًا في شريعة آدم وإبراهيم عليهما السلام يلزم أن يكون الناس كلهم أولاد الزنا والناكحون زانين وواجبي القتل وملعونين، فكيف يظن هذا في حق الأنبياء عليهم السلام، فلا بد من الاعتراف بأنه كان جائزًا في شريعتهما ثم نسخ. (فائدة) ترجم صاحب الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811 الآية الثانية عشرة من الباب العشرين من سفر التكوين هكذا: (هي قريبتي من أبي لا من أمي) فالظاهر أنه حرف قصدًا لئلا يلزم النسخ بالنسبة إلى نكاح سارة لأن قريبة الأب تشمل بنت العم والعمة وغيرهما. .(الثاني): (فائدة) حرف هنا أيضًا صاحب الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811 وترجم الآية الثالثة المذكورة هكذا: (كل دبيب طاهر حي يكون لكم مأكلًا كخضر العشب) فزاد لفظ الطاهر من جانبه لئلا تشمل الحيوانات المحرمة في شريعة موسى لأنه قيل في حقها في التوراة أنها نجسة. .(الثالث):
|